فصل: الباب الأول: في مأخذ هذا الاسم ومعناه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر}
يعني: أنزلنا القرآن الكريم جملة واحدة إلى سماء الدنيا، من اللوح المحفوظ في ليلة القدر، يعني: في ليلة القضاء، وإنما سميت ليلة القدر، لأن الله تعالى، يقدر في تلك الليلة ما يكون من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل، والرزق.
وغيره ويسلمه إلى مدبرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة إسرافيل وجبريل، وميكائيل وملك الموت عليهم السلام.
وفي آية أخرى {فِى لَيْلَةٍ مباركة} [الدخان: 3] وإنما سميت ليلة مباركة، يعني: ليلة القدر، لأنه ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة.
ثم قال عز وجل: {وَمَا أَدْرَاكَ ما ليلة القدر} تعظيمًا لها، فقال: {ليلة القدر خَيْرٌ مّنْ ألف شهر} يعني: العمل في ليلة القدر، خير من العمل في ألف شهر، ليس فيها ليلة القدر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان جالسًا بين أصحابه، يحدث بأن رجلًا كان من بني إسرائيل، لبس السلاح ألف شهر، وصام ولم يضع السلاح، حتى مات.
فعظم ذلك على أصحابه فنزلت {ليلة القدر خَيْرٌ مّنْ ألف شهر} يعني: العمل فيها وثوابه، أفضل من لبس السلاح، وصيام ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وروي في خبر آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَرَى أَعْمَالُ النَّاسِ»، فكأنه تقاصر أعمار أمته، أن لم يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى في الجنة ليلة القدر، خيرًا من ألف شهر.
فقيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي ليلة هي؟ قال: «التمسوها فِي العَشْرِ الأواخر مِنْ رَمَضَانَ».
ثم قال عز وجل: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} يعني: تتنزل الملائكة من كل سماء، ومن سدرة المنتهى، وهو مسكن جبريل على وسطها عليه السلام، فينزلون إلى الأرض، ويدعون الخلق، ويؤمنون بدعائهم، إلى وقت طلوع الفجر.
وذلك قوله: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} يعني: جبريل معهم وذكر في الخبر، أن جبريل عليه السلام، وقف على سطح الكعبة، ونشر جناحيه.
أحدهما يبلغ المشرق، والآخر يبلغ المغرب.
وقال بعضهم: {الروح} خلق يشبه الملائكة، وجهه يشبه وجه بني آدم عليه السلام.
وقال بعضهم: هو ما قال الله تعالى: {وَيَسْألُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أمر رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85] وقال مجاهد ما نزل ملك إلا ومعه روح، ولهم أيد وأرجل، وهم موكلون على الملائكة، كما أن الملائكة موكلون على بني آدم.
ثم قال عز وجل: {بِإِذْنِ رَبّهِمْ} يعني: ينزلون بأمر ربهم {مّن كُلّ أمر سلام} يعني: تلك الليلة من كل أمر سلام، يعني: من كل آفة سلامة، يعني: في هذه الليلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقال سلام يعني: لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها شرًا.
وقال القتبي: إن (من) توضع موضع (الباء)، يعني: بكل أمر سلام أي: خير {هي حتى مَطْلَعِ الفجر} وقال مجاهد: يعني: كل أمر سلام، وسلام من أن يحدث فيها آذًى، أو يستطيع الشيطان أن يعمل فيها.
ويقال: معناه {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أمر} وقد تم الكلام.
يعني: ينزلون فيها من كل أمر من الرخصة، وكل أمر قدره الله تعالى، في تلك الليلة إلى قابل.
ثم استأنف فقال: {سلام هي} يعني: سلام وبركة، وخير كلها {حتى مَطْلَعِ الفجر}.
وروي عن ابن عباس رضي الله، عنهما، أنه قرأ من كل أمر سلام، يعني: الملائكة يسلمون على كل امرئ.
وقرأ الكسائي {حتى مَطْلَعِ الفجر} بكسر اللام، والباقون بنصب اللام.
فمن قرأ بالكسر، جعله اسمًا لوقت الطلوع، ومن قرأ بالنصب جعله مصدرًا.
يعني: يطلع طلوعًا، والله أعلم بالصواب. اهـ.

.قال الثعلبي:

سورة القدر:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي ليلة القدر}
يعني القرآن كنايةً عن غير مذكور، جملةً واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، فوضعناه في بيت العزّة وأملاه جبرئيل على السَّفَرة ثم كان يُنزله جبرئيل على محمد (عليهما السلام) بنحو ما كان، من أوّله إلى آخره بثلاث وعشرين سنة، ثم عجَّب نبيّه- عليه السلام- فقال: {وَمَآ أَدْرَاكَ ما ليلة القدر}.
والكلام في ليلة القدر على خمسة أبواب:

.الباب الأول: في مأخذ هذا الاسم ومعناه:

واختلف العلماء، فقال أكثرهم: هي ليلة الحكم والفصل يقضي اللّه فيها قضاء السنة، وهو مصدر من قولهم: قدر اللّه الشيء قَدْرًا وقَدَرًا لغتان كالنَّهْر والنَّهَر والشَّعْر والشَّعَر، وقدَّرهُ تقديرًا له بمعنى واحد، قالوا: وهي الليلة التي قال اللّه سبحانه: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمر حَكِيمٍ} [الدخان: 3- 4] وإنّما سُمّيت ليلة القدر مباركة؛ لأن اللّه سبحانه يُنزل فيها الخير والبركة والمغفرة.
وروى أبو الضحى عن ابن عباس أن اللّه عزّ وجلّ يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويُسلمها إلى أربابها في ليلة القدر.
روي أنه تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلاّ الكاهن أو الساحر أو مدمن خمر أو عاق لوالديه أو مصرّ على الزنا أو مشاحن أو قاطع رحم.
وقيل للحسين بن الفضل: أليس قد قدّر اللّه سبحانه المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: نعم، قال: فما معنى {ليلة القدر}؟ قال: سَوقُ المقادير إلى المواقيت وتنفيذ القضاء المقدَّر.
أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن ابن جُبير قال: حدّثنا ابن حميد قال: حدّثنا مهران عن سفيان عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير قال: يؤْذن للحُجاج في ليلة القدر فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، فلا يُغادر منهم أحد ولا يزاد ولا ينقصُ منهم.
وقال الزهري: هي ليلة العظمة والشرف، من قول الناس لفلان عند الأمير قدْر أي جاه ومنزلة، يقال: قدرت فلانًا أي عظّمتهُ قال اللّه سبحانه: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] أي ما عظّموا اللّه حق عظمتهِ وقال أبو بكر الورّاق: سُمِّيتْ بذلك لأنّ من لم يكن ذا قدر وخطر يصيرُ في هذه الليلة ذا قدر إذا أدركها وأحياها.
وقيل: إنّ كلّ عمل صالح يؤخذ فيها من المؤمن فيكون ذا قدر وقيمة عند اللّه لكونه مقبولا فيها.
وقيل: لأنّه أُنزل كتابٌ ذو قدر على رسول ذي قدر لأجل أُمّة ذاتِ قدر، وقال سهل بن عبد اللّه: لأنّ اللّه سبحانه يقدّر الرحمة فيها على عباده المؤمنين.
وقيل: لأنه يُنزَّل فيها إلى الأرض ملائكة أُولو قدر وذوو خطر.
وقال الخليل بن أحمد: سُمِّيت بذلك لأنّ الأرض تضيق فيها بالملائكة من قوله: {وَيَقْدِرُ} {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7].

.الباب.

الثاني: اختلاف العلماء في وقتها، وأي ليلة هي، ذكر اختلاف الصحابة فيها:
فقال بعضهم: إنّما كانت على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم رفعت.
أخبرني عبد اللّه بن حامد إجازة قال: أخبرنا محمد بن الحسين بن الحسن قال: حدّثنا أحمد بن يوسف قال: حدّثنا عبد اللّه قال: أخبرنا سفيان عن الأوزاعي عن مرشد أو عن أبي مرشد قال: «كنتُ جالسًا مع أبي ذرّ عند خُمرة الوسطى فسُئل عن ليلة القدر فقال: كنت أسأل الناس عنها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: قلت: يا رسول اللّه ليلة القدر هل هي تكون على عهد الأنبياء عليهم السلام، فإذا مضوا رفعت؟ قال: لا، بل هي إلى يوم القيامة».
وأخبرنا عبد اللّه بن حاطب قال: أخبرنا محمد بن عامر السمرقندي قال: أخبرنا عمر بن الحسين قال: حدّثنا عبد بن حميد عن روح بن عبادة قال: حدّثنا ابن جريج قال: أخبرني داود ابن أبي عاصم عن عبد اللّه بن عيسى مولى معاوية قال: قلت لأبي هريرة زعموا أنّ ليلة القدر قد رفعتْ قال: كذب من قال ذلك، قال: قلت هي في كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم.
وقال بعضهم: هي في ليالي السنة كلّها، وإنّ من علق طلاق امرأته أو عتق عبده ليلة القدر لم يقع الطلاق ولم ينفذ العتاق إلى مضي سنة من يوم حلف، وهي إحدى الروايات عن ابن مسعود قال: من يُقِم الحول كلّه يصبْها.
قال: فبلغ ذلك عبد اللّه بن عمر، فقال: يرحم اللّه أبا عبد الرحمن أما إنه علِمَ أنها في شهر مضان؟ ولكن أراد أن لا يتّكل الناس، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة أنها في جميع السنة، وحُكي عنه أيضًا أنّه قال: رفعت ليلة القدر، وروي عن ابن مسعود أيضًا أنه قال: إذا كانت السنة في ليلة كانت العام المقبل في ليلة أُخرى، والجمهور من أهل العلم على أنها في شهر رمضان في كل عام.
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال: أخبرنا محمد بن عامر قال: أخبرنا عمر بن يحيى قال: حدّثنا عبد بن حميد عن عبيد اللّه بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن أبي عمير أنه سئل عن ليلة القدر: أفي كل رمضان هي؟ قال: نعم.
وأخبرنا عقيل أن المعافى أخبرهم عن محمد بن جرير قال: حدّثني يعقوب قال: حدّثنا ابن عليّة قال: حدّثنا ابن ربيعة بن كلثوم قال: قال رجل للحسين وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي؟ قال: نعم واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنها لفي كلّ رمضان، وإنّها ليلة يفرق فيها كلّ أمر حكيم، فيها يقضى كلّ أجل وعمل، ورزق وخلق إلى مثلها.
واختلفوا في أول ليلة هي منها، فقال أنور بن العقيلي: هي أول ليلة من شهر رمضان، وقال الحسن: هي ليلة سبع عشرة، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر.
والصحيح أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، يدلّ عليه ما أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد الشيباني قال: أخبرنا عبد اللّه بن مسلم، قال: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، وقال: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن ابن مسلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «أُريتُ ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر».
وأخبرنا أبو بكر العباسي قال: أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال: حدّثنا عبد اللّه بن قاسم قال: حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان وشعبة وإسرائيل عن ابن إسحاق عن هُبيرة عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشرة الأواخر من رمضان.
وأخبرنا أبو محمد المخلَّدي وعبد اللّه بن حامد قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا عمار بن رجاء قال: حدّثنا أحمد بن أبي طيبة عن عنبسة بن الأزهر عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد قال: سمعت عليًّا رضي الله عنه يقول: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان دأب وأدأبَ أهله».
فدلَّت هذهِ الأخبار على أن ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان.
ثم اختلفوا في أي ليلة فيها فقال أبو سعيد الخدري: هي الليلة الحادية والعشرون، واحتجّ في ذلك بما أخبرنا أبو نعيم الأزهري قال: حدّثنا أبو عوانة سنة ست عشرة وثلاثمائة، قال: أخبرنا المزني قال: قال الشافعي: وأخبرنا أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد المطوعي، وأبو على السيوري، وأبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه المصيبي قالوا: حدّثنا أبو العباس الأصمّ قال: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا مالك عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسط من شهر رمضان، فلمّا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال صلى الله عليه وسلم: من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فإني رأيت هذه الليلة ثم أُنسيتها وقال وأريتني أسجد في ماء وطين فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر. فأمطرت السماء في تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد».
قال أبو سعيد فأبصرت عيناي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم انصرف، علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين.
وقال بعضهم هي الليلة الثالثة والعشرون منها.
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال: أخبرنا عبد اللّه بن محمد الهمداني قال: أخبرنا الحسين بن عبد الأعلى قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه إني رأيتُ في النوم كأن ليلة القدر سابعة تبقى، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين، من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئًا فليقم ليلة ثلاث وعشرين».
قال معمر: كان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمسّ طيبًا.
وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا أحمد بن حفص قال: حدّثني أبي قال: حدّثني إبراهيم عن عبّاد وهو ابن إسحاق عن الزهري عن ضمرة بن عبد اللّه بن أنيس عن أبيه قال: «كنت في مجلس من بني سلمة وأنا أصغرهم فقالوا: من يسأل لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر؟ وذلك صبيحة إحدى وعشرين من رمضان، قال: فخرجت فوافيت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب ثم نمت بباب بيته فمرّ بي فقال: ادخل. فدخلت فأُتيَ بعشائه فرأيتني أكفّ عنه من قلته، فلمّا فرغ قال: ناولني نعلي. فقام وقمت معه فقال: كان لك حاجة؟ فقلت: أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر فقال: كم الليلة؟ فقلت: اثنان وعشرون، فقال: هي الليلة. ثم رجع فقال: أو الثالثة. يُريد ليلة ثلاث وعشرين».
قال أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا طفران قال: حدّثنا الحسن بن إسماعيل المحاملي قال: حدّثنا يعقوب الدورقي قال: حدّثنا عبد اللّه بن إدريس قال: سمعت عاصم بن كليب يروي عن أبيه عن خاله قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إني رأيت ليلة القدر ثم أُنسِيتُها ورأيت مسيح الضلالة فخرجت إليكم لأُبيّنها فرأيت رجلين يتلاحيان فحجزتُ بينهما فأنسيتهما وسأشدو لكم منها شدوًا، فأما ليلة القدر فاطلبوها في العشر الأواخر وترًا، وأمّا مسيح الضلالة فرجل أجلى الجبهة، ممسوح العين اليسرى، عريض النحر، فيه دمامة كأنّه فلان بن عبد العزى أو عبد العزى بن فلان».
قال: فذكرت هذا الحديث لابن عباس قال: وما عجبك؟ سأل عمر بن الخطاب أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان يسألني معهم مع الأكابر منهم ويقول لي: لا تتكلم حتى يتكلّموا، فقال: علمتم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة القدر اطلبوها في العشر الأواخر وترًا» ففي أي الوتر ترون؟
قال: فأكثر القوم في الوتر، فقال: مالك لا تكلّم ابن عباس؟ قال: قلت: إن شئت تكلّمت، قال: عن رأيك أسألك؟ قال: قلت: رأيت اللّه سبحانه أكثر ذكر السبع، وذكر السماوات سبعًا، والأرضين والطواف سبعة، والجمار سبعة، وما شاء اللّه من ذلك، خلق الإنسان من سبعة، وجعل رزقه من سبعة.
قال: قلت: خلق الإنسان، فقال: فكلّما ذكرت عرقت، فما قولك خلق الإنسان من سبعة وجعل رزقه من سبعة؟ قال: قلت: {خلقنا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قرار مَّكِينٍ} [المؤمنون: 12- 13] إلى قوله: {خلقا آخَرَ} [المؤمنون: 14].
ثم قرأت {أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبًّا} [عبس: 25] إلى قوله سبحانه: {وَأَبًّا} [عبس: 31] والأبّ ما أنبتت الأرض ممّا لا تأكله الناس، فما أراها إلاّ ليلة ثلاث وعشرين لسبع بقين، فقال عمر: غلبتموني أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه.
وأخبرنا عبد اللّه بن حامد عن صالح بن محمد قال: حدّثنا إبراهيم بن محمد عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: أخبرني برأيك في ليلة القدر، قال: فقلت: إن اللّه سبحانه وتر يحب الوتر، السماوات سبع، والأرضون سبع، وترزق من سبع، وتخرج من سبع، ولا أراها إلاّ في سبع بقين من رمضان، فقال عمر: وافق رأيي رأيك، ثم ضرب منكبي وقال: ما أنت بأقل القوم علمًا.
وقال زيد بن ثابت وبلال: هي ليلة أربع وعشرين، ودليلهما ما أخبرناه عبد اللّه بن حامد قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد قال: حدّثنا علي بن حرب قال: حدّثنا محمد بن معاوية قال: حدّثنا بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن يزيد بن عبد اللّه عن الضابحي عن بلال قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «ليلة القدر ليلة أربع وعشرين».
وقيل: هي الليلة الخامسة والعشرون، يدلّ عليها ما أخبرنا محمد بن عبد اللّه الحافظ في آخرين قالوا: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا بحر بن نصر قال: فرأى على ابن وهب أخبرك خبر أحد منهم مالك بن أنس عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة».
وقال قوم: هي الليلة السابعة والعشرون، وإليه ذهب على وأُبي وعائشة ومعاوية، يدل عليه ما أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس قال: أخبرنا أبو أحمد حمزة بن العباس ببغداد قال: حدّثنا أحمد بن الوليد الفحام قال: حدّثنا مسوّد بن عامر ش إذا ن قال: أخبرنا شعبة قال: عبد اللّه بن دينار أخبرني قال: سمعت ابن عمر يحدّث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر قال: «من كان متحرّيًا فليتحرّها في ليلة سبع وعشرين».
وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قراءة عليه قال: أخبرنا محمد بن جعفر قال: حدّثنا الحسن بن علي بن عفّان قال: حدّثنا عمرو العنقري قال: حدّثنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال: أتينا بن مسعود فسألناه عن ليلة القدر فقال: من يقم الحول يصبها، فقال: يرحم اللّه أبا عبد الرحمن قد علم أنها في شهر رمضان وأنها في ليلة تسع وعشرين قال: فقال لنا أبا المنذر: إني قد علمت ذلك فقال: بالآية التي أنبأنا بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحفظنا وعددنا، قال: فواللّه فإنها لفي ما تستثني، قال: فقلنا: أبا المنذر ما الآية؟ قال: تطلع الشمس عندئذ كأنها طست ليس لها شعاع.
وروي عن أُبيّ بن كعب أيضًا أنّه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بأُذنيَّ وإلاّ فصمتا أنّه قال: «ليلة القدر ليلة سبع وعشرين».
وقال بعض الصحابة: «قام بنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليلة الثالث والعشرين ثلث الليل، فلمّا كانت ليلة الخامس والعشرين قام بنا نصف الليل، فلمّا كانت الليلة السابعة والعشرون قام بنا الليل كلّه».
وقال أبو بكر الورّاق: إنّ اللّه سبحانه وتعالى قسّم كلمات هذه السورة على ليالي شهر رمضان، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: {هِيَ}.
وقال بعضهم: هي ليلة التاسع والعشرين، وروي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «ليلة القدر ليلة السابع والعشرين أو التاسع والعشرين وإن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى».
وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قال: أخبرنا مكّي قال: حدّثنا محمد بن سعيد القطان قال: حدّثنا عيينة بن عبد الرحمن قال: حدّثني أبي قال: ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة فقال: ما أنا بطالبها بعد شيء سمعته من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلاّ في العشر الأواخر، سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «التمسوها في العشر الأواخر في تسع بقين، أو سبع بقين، أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة». وكان أبو بكرة إذا دخل شهر رمضان ظلّ يُصلي في سائر السنة، فإذا دخل العشر اجتهد.
وفي الجملة، أخفى اللّه علم هذه الليلة على الأُمّة ليجتهدوا في العبادة ليالي رمضان طمعًا في إدراكها كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات، واسمه الأعظم في الأسماء، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، وغضبه في المعاصي، ورضاه في الطاعات، وقيام الساعة في الأوقات، رحمةً منه وحكمة، واللّه أعلم.